في بعض النصوص السياسية الحديثة، تظهر ظاهرة خطيرة تتمثل في تغليف المصالح الجيوسياسية بلغة فلسفية وأخلاقية، حيث يتحول التدخل الإقليمي إلى رسالة حضارية، والهيمنة إلى واجب أخلاقي، وهذه المقاربة ليست جديدة في تاريخ القوى التي تسعى لدور إقليمي، فكل مشروع توسعي يحتاج دائمًا إلى سردية أخلاقية تُشرعن أفعاله وتُخفي دوافعه الحقيقية، بغض النظر عن قدرته الفعلية على تحقيق ما تدّعيه هذه السردية.

هذا النوع من الخطاب يعتمد على تبرير التدخلات غير المشروعة بحجة التنوير وحماية الوعي، وهنا يكمن السؤال: من منح هؤلاء هذا الحق؟ باسم “حماية الوعي” و”إنقاذ الإنسان من السرديات المظلمة”، تُمنح جهة واحدة امتياز القيم الأخلاقية والمعرفية على المنطقة بأسرها، وهذا ليس موقفًا فلسفيًا بل هو مطلب هيمنة يُصاغ بلغة التنوير. ما يحدث هنا هو تحويل الطموح السياسي إلى واجب حضاري، بحيث لا يبدو المشروع ساعيًا إلى نفوذ إقليمي وهو حق مشروع لأي دولة، بل حاملاً “رسالة” لإنقاذ المنطقة من نفسها، وهذا التحويل يسمح بتجاوز كل حدود السيادة والشرعية الدولية لأن “الرسالة الأخلاقية تعلو في هذا المنطق على القانون الدولي”.

هذا المنطق ليس غريبًا في التاريخ، فقد استُخدم من قبل كل القوى التوسعية عبر العصور، الاستعمار الأوروبي حمل “عبء الرجل الأبيض” لتمدين الشعوب المتوحشة، والتوسع الأمريكي رفع شعار نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتدخل السوفييتي ادّعى تحرير البروليتاريا وبناء العدالة الاشتراكية، والآن يأتي من يبرر التدخل في شؤون الدول بحجة إنقاذ الوعي العربي من الظلام، السردية واحدة تتغير فقط الأسماء والجغرافيا لكن الجوهر يبقى: تحويل المصالح الجيوسياسية إلى رسالة أخلاقية تُبرر كل شيء.

عادةً ما يُربط هذا النوع من المشاريع بما يُسمى “الغايات الرشيدة”، وهو ربط يوحي بأن أفعالها أيًا كانت متجهة حتمًا نحو الخير الأسمى، لكن السؤال المركزي في الفلسفة السياسية يبقى مُعلقًا: من يُحدد الغاية؟ وبأي حق؟ ومن يُراقب من يدّعي احتكار الغاية الأخلاقية؟ الأخطر من ذلك أن هذا الخطاب يُسقط مفهوم “الغاية الواحدة المغلقة” على الخصوم فقط، بينما يمنح مشروعه غاية كونية شاملة: حماية الكرامة، الوعي، الأخلاق، الإنسان، الأوطان، العقل، التعايش، وهذا تناقض فادح.

عندما يصل هذا الخطاب إلى ذروة شيطنة الخصم، يُختزل التطرف في المنطقة بأكملها من خلال شخصية واحدة أو نص واحد، وكأن ما يجري من صراعات وحروب مرتبط حصريًا بهذا النص أو تلك الأيديولوجيا، وهذا الاختزال ليس بريئًا بل يخدم غاية واحدة: إلغاء السياسة لصالح الأخلاق المُسيّسة. بدلًا من تحليل الصراعات كجزء من الدفاع عن النفس وإعادة الأمن والاستقرار، يُحوّل كل شيء إلى معركة بين “وعي” و”ظلام”، وهذا يسمح بتصنيف أي طرف يقف في وجه هذا المشروع بأنه امتداد للتطرف.

يتجاوز الأمر مستوى الخطاب إلى الممارسة الفعلية عندما يُزعم أن الدور لا يقتصر على المواجهة الأمنية بل يمتد إلى إعادة هندسة المجتمعات، هنا يتحول الخطاب من تبرير فكري إلى تفويض سياسي مفتوح، ماذا يعني “تفكيك المنظومات”؟ وماذا يعني “إعادة بناء المواطنة”؟ في الممارسة العملية، يعني ذلك دعم فصائل مسلحة ضد حكومات معترف بها دوليًا، والتدخل في العمليات السياسية والانتخابية، وتمويل أطراف محلية لإضعاف أخرى، وتغيير موازين القوى الداخلية بحجة “الإصلاح”.

عندما يتم تفكيك مبررات هذا التجاوز السافر على سيادة الدول، تُدشَّن استراتيجية خطابية واضحة المعالم: إلغاء النقد بوصفه حقًا مشروعًا وإعادة تعريفه كجزء من المؤامرة، وهذه سمة الخطاب السلطوي الشمولي: من ليس معنا فهو مع التطرف، من ينتقدنا فهو يُشوّه، من يُساءل فهو يخدم الفوضى، من يختلف فهو عدو للوعي والإنسان.

إذا كانت هذه المشاريع العابرة للحدود تحمل حقًا ما تدّعيه من نوايا، لحققت استقرارًا في البلدان التي تدخلت فيها، ولرأينا تراجعًا ملموسًا في العنف والفوضى، وتعزيزًا للمؤسسات والدولة الوطنية، لكن الواقع يُظهر العكس تمامًا، فإذا كان هذا هو التنوير، فماذا يكون التدمير؟

ما نواجهه هنا ليس سوى سردية تبريرية متكاملة ليتحول البعض إلى مرجعية أخلاقية ومعرفية بلا تفويض شرعي، واختزال الخصوم في أيديولوجيا مظلمة لتبرير استهدافهم، وتحويل التنوير من قيمة إنسانية إلى أداة تدخل وهيمنة، وتجريم المساءلة بوصفها تشويهًا أو خدمة للتطرف، وهذه أخطر أنواع المشاريع.